نيجيريا بين الجوع والترحال القسري.. أزمة ممتدة تبحث عن عدالة وإنقاذ

نيجيريا بين الجوع والترحال القسري.. أزمة ممتدة تبحث عن عدالة وإنقاذ
نازحون في نيجيريا جراء العنف

تُظهر أحدث تقديرات الأمن الغذائي الإقليمي أن عدد من يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد في نيجيريا قفز خلال موسم العجاف الأخير إلى مستويات مقلقة، وفق إطار التصنيف المتناسق في غرب إفريقيا. يُتوقع أن يواجه أكثر من ثلاثين مليون شخص درجات من الأزمة الغذائية أو أسوأ إذا لم تُعزز الاستجابة بشكل عاجل، مع جيوب معرضة لسوء التغذية الحاد في الولايات الشمالية الشرقية. 

هذه المؤشرات تجعل من نيجيريا إحدى بؤر الجوع الكبرى في القارة الإفريقية خلال عام 2025، وتؤكدها تحذيرات الأمم المتحدة وبرامجها الإنسانية التي تشير إلى فجوات تمويل ومعوقات وصول تعرقل التغطية الكافية للمساعدات الغذائية والنقدية وفق منظمة "اليونيسف".

وكانت مارجوت فان دير فيلدن، المدير الإقليمي لبرنامج الأغذية العالمي في غرب إفريقيا، قد ذكرت في يوليو الماضي أن انعدام الأمن وتقليص التمويل وضعا شمال نيجيريا في "أزمة جوع غير مسبوقة" قد تترك أكثر من 1.3 مليون شخص بدون طعام وتدفع إلى إغلاق 150 عيادة تغذية في ولاية بورنو.

نزوح لا يهدأ

على الأرض، يتواصل النزوح الداخلي بوتيرة مرتفعة. تقدّر بيانات الأمم المتحدة ومصفوفة تتبع النزوح أن البلاد تضم أكثر من ثلاثة ملايين من النازحين داخلياً يتركزون في ولايات بورنو ويوبي وأداماوا وفي الشمال الغربي المتأثر بعنف العصابات، وتعكس هذه الأرقام مساراً تراكمياً من التهجير المرتبط بالنزاعات والفيضانات الدورية، مع ارتفاع الاحتياجات الأساسية في المأوى والمياه والصحة والتعليم. كما تؤكد تقارير مفوضية اللاجئين أن أعداد النازحين داخلياً تتجاوز ثلاثة ملايين ونصف المليون عبر نيجيريا، ما يضع عبئاً هائلاً على الخدمات المحلية وقدرة الشركاء على الاستجابة.

تتشابك ثلاثة محركات مركزية للأزمة: الأول يتمثل في الصراع الممتد مع جماعات مسلحة في الشمال الشرقي وعنف العصابات واحتكاكات الرعاة والمزارعين في الشمال الغربي والحزام الأوسط، وهي أنماط عنف تلحق أضراراً مباشرة بالمزارعين، وتقيّد الوصول إلى الحقول، وتعرقل الأسواق وسلاسل الإمداد.

العامل الثاني اقتصادي، إذ بلغ تضخم أسعار الغذاء مستويات قياسية هذا العام وفق بيانات رسمية، بفعل تراجع قيمة العملة وتداعيات إصلاحات رفع دعم الوقود وتكاليف النقل، وهو ما يقلص القدرة الشرائية للأسر الفقيرة على وجه الخصوص، أما العامل الثالث فهو مناخي، حيث تتسبب مواسم الجفاف والفيضانات الشديدة في إتلاف المحاصيل والبنية التحتية الريفية وتفاقم انعدام الأمن الغذائي، مع توقعات موسمية غير مواتية تزيد هشاشة سبل العيش الزراعية. 

إنسانية على خطوط التماس

في ولايات بورنو وأداماوا ويوبي، تتحدث فرق اليونيسف والمنظمات الشريكة عن مستويات مقلقة من سوء التغذية الحاد لدى الأطفال، وتعمل على توسيع نطاق العلاج الغذائي والتطعيم وخدمات المياه والصرف الصحي، لكن الوصول إلى المجتمعات المعزولة يظل تحدياً، في حين تضغط موجات النزوح على قدرات العيادات والمراكز المجتمعية، ويكافح مقدمو الخدمات لتأمين الإمدادات والوقود وتشغيل سلاسل التبريد للحليب العلاجي والأدوية الأساسية.

تحاول المنظومة الأممية والشركاء سد الفجوات عبر توزيع المساعدات الغذائية وتقديم التحويلات النقدية ودعم سلاسل الإمداد المحلية. تقارير برنامج الأغذية العالمي تشير إلى توسيع عمليات التوزيع في الشمال الشرقي من نيجيريا وتكثيف الدعم للمطابخ المجتمعية وبطاقات الشراء، مع تحذير واضح من أن فجوات التمويل قد تعني تقليص الحصص أو تقليص نطاق المستفيدين.

تعمل اليونيسف بالتوازي على علاج سوء التغذية الحاد ودعم برامج المياه والنظافة، في حين يساند مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية جهود الوصول والبعثات المشتركة، ويقود التخطيط للاستجابة متعددة القطاعات.

في السياق، وافقت الولايات المتحدة على تقديم مساعدة بقيمة 32.5 مليون دولار إلى نيجيريا للمساعدة في حل أزمة الجوع، وذلك في تحول نادر في السياسة الخارجية الأمريكية منذ أن أوقف الرئيس دونالد ترامب معظم المساعدات التي كانت تقدمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

وقالت البعثة الأمريكية في نيجيريا، في بيان أمس الأربعاء، إن التمويل سيوفر المساعدة الغذائية والدعم الغذائي للنازحين داخلياً في المناطق المتضررة من النزاع.

وقالت البعثة الأمريكية إن التبرع سيوفر الطعام ومساعدات التغذية لـ 764205 مستفيدين في جميع أنحاء شمال شرق وشمال غرب نيجيريا، أكبر دول إفريقيا من حيث عدد السكان.

وأضافت أن "هذا يشمل توفير تغذية تكميلية لـ 41569 امرأة وفتاة حوامل ومرضعات و43235 طفلاً من خلال قسائم الغذاء الإلكترونية".

 على الرغم من ذلك، تبقى الاحتياجات أكبر من الموارد المتاحة، وتظل القيود الأمنية والبيروقراطية واللوجستية عائقاً أمام إيصال المساعدات على نطاق يلائم حجم الأزمة.

محاكمة المتهمين والمساءلة

على مسار العدالة، مثّل استئناف محاكمات المشتبه بانتمائهم إلى بوكو حرام في قاعدة كاينجي العسكرية خطوة بارزة بعد سنوات من التعثر، حيث أعلنت السلطات القضائية إدانات وأحكاماً بالسجن في موجات محاكمة متعاقبة، كما أُحيل خمسة متهمين في هجوم كنيسة أوو عام 2022 إلى المحاكمة أمام المحكمة الاتحادية في أبوجا خلال أغسطس 2025، وفي أغسطس أيضاً نظرت محكمة في طلبات الإفراج بكفالة للمتهمين على ذمة القضية.

 هذه التحركات القضائية تعكس جهوداً لتقوية المساءلة عن الجرائم الإرهابية وجرائم العنف الجماعي، لكنها لا تمحو القلق الحقوقي المستمر من بطء الإجراءات وتباين معايير الأدلة وضمانات المحاكمة العادلة. 

مطرقة العنف وسندان الإفلات

تشدد منظمات حقوقية محلية ودولية على ضرورة أن يرافق المحاكمات التزامٌ صارم بمعايير الإجراءات الواجبة، وأن تمتد العدالة لتشمل أي انتهاكات ترتكبها جهات إنفاذ القانون، وقد وثّقت تقارير حديثة استخدام القوة المفرطة في فض احتجاجات وتكرار أنماط التعذيب والمعاملة السيئة داخل أماكن الاحتجاز، مع ضعف في ملاحقة الجناة، وترى هذه المنظمات أن تفكيك دائرة الإفلات يتطلب مساراً مزدوجاً يتمثل في إنفاذ القانون ضد الجماعات والعصابات المسلحة، ومساءلة شفافة عن أي تجاوزات ترتكبها قوات الأمن، وأن يكون ذلك عبر تحقيقات مستقلة وتوصيات قابلة للتنفيذ وجبر ضرر للضحايا. 

تذكّر المنظومة الأممية بأن الحق في الغذاء والحماية من الجوع منصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن حماية النازحين داخلياً تكفلها مبادئ توجيهية دولية والاتفاقية الإفريقية لحماية النازحين داخلياً، وعلى المستوى الإقليمي، ضمنت نيجيريا هذه الالتزامات عبر المصادقة على اتفاقية كمبالا، واتخذت خطوات تشريعية ومؤسسية لتحسين استجابة الدولة للنزوح الداخلي، لكن التنفيذ الميداني يظل مرتبطاً بتعزيز التنسيق والتمويل وفعالية الدولة في بسط سيادة القانون وحماية المدنيين.

لا يقف أثر الأزمة عند حدود سوء التغذية والمرض؛ فالنزوح الطويل يفتت الروابط الاجتماعية ويعطل التعليم ويزيد تعرض النساء والفتيات للعنف القائم على النوع الاجتماعي ويقوّض الأصول الإنتاجية للأسر، كما أن فقدان المواسم الزراعية المتتالية يحول كثيرين من منتجين إلى معتمدين على المساعدات، ويعمّق فجوات الفقر بين الأقاليم. تشير تنبيهات برنامج الأغذية العالمي إلى أن أي صدمات إضافية في الأسعار أو الطقس قد تدفع مزيداً من الأسر إلى آليات تكيّف سلبية مثل تقليل الوجبات أو بيع الأصول القليلة المتبقية.

كبح الجوع والنزوح 

يتطلب كبح الجوع والنزوح في نيجيريا إجراءات متزامنة على مسارات متكاملة وفق منظمات إنسانية؛ أولها توسيع التمويل الإنساني المرن لسد فجوات الغذاء والتغذية والمياه والصحة والتعليم في الولايات الأكثر تضرراً، مع ضمان وصول آمن ومستدام للعاملين في المجال الإنساني، ثاني الإجراءات يتمثل في دعم سبل العيش الزراعية عبر المدخلات والبذور المقاومة للمناخ وإصلاح قنوات التسويق والطرق الريفية، وربط المساعدات النقدية ببرامج الحماية الاجتماعية الوطنية.

وثالثها تسوية محلية للنزاعات عبر آليات العدالة التصالحية وحماية الرعاة والمزارعين ووساطات مجتمعية تعالج جذور النزاع على الموارد، ورابعها مسار عدالة جنائية يوازن بين محاسبة مرتكبي الجرائم الإرهابية وإنفاذ معايير حقوق الإنسان، واستكمال التحقيقات المستقلة في أي ادعاءات بانتهاكات منسوبة إلى أجهزة الأمن بما يعزز الثقة العامة ويؤسس لردع فعّال، وأخيراً إدارة مخاطر المناخ والكوارث بسياسات إنذار مبكر وتمويل طوارئ قابل للصرف السريع، خاصة مع توقعات موسمية غير مواتية.

أزمة الجوع والنزوح الداخلي في نيجيريا ليست طارئة ولا عابرة، إنها نتيجة تفاعل طويل بين السلاح والمناخ والاقتصاد وحوكمة الأمن، ورغم الجهود الإنسانية المتزايدة وبعض الإشارات القضائية الإيجابية، ما زال الطريق طويلاً نحو مزيج من العدالة والإنقاذ والتنمية يوقف النزيف الإنساني ويعيد دورة الحياة إلى القرى والبوادي والأسواق، سيُقاس التقدم بقدرة الأسر على العودة الآمنة إلى حقولها، وتراجع معدلات سوء التغذية، وانخفاض أحداث العنف، وارتفاع منسوب الثقة في مؤسسات العدالة والشرطة والجيش عندما تُرى المحاسبة واقعاً، وحين يصبح الحق في الغذاء والكرامة مصوناً بالفعل لا بالقول.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية